.تفسير الآية رقم (48):
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هُوَ صَاحِبُ الْحُوتِ، وَلَا نِدَاءَهُ وَهُوَ مَكْظُومٌ، وَلَا الْوَجْهَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى صَاحِبَ الْحُوتِ فِي الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}. إِلَى قَوْلِهِ:
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [37/ 139- 142].وَأَمَّا النِّدَاءُ، فَقَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-: قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [21/ 87- 88].فَصَاحِبُ الْحُوتِ هُوَ يُونُسُ، وَنِدَاؤُهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، وَحَالَةُ نِدَائِهِ وَهُوَ مَكْظُومٌ.أَمَّا الْوَجْهُ الْمَنْهِيُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ: فَهُوَ الْحَالُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ غَضَبِهِ، وَهُوَ مَكْظُومٌ، وَهَذَا بَيَانٌ لِجَانِبٍ مِنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَخَلُّقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَاصْبِرْ} أَيْ: عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ وَخَوَاصِّ تَوْجِيهَاتِ اللَّهِ إِلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [16/ 126- 127] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى خُلُقًا فَاضِلًا عَامًّا لِلْأُمَّةِ: فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالصَّفْحِ.ثُمَّ خَصَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ أَيْ: لَا تُعَاقِبِ انْتِقَامًا وَلَوْ بِالْمِثْلِيَّةِ وَلَكِنِ اصْبِرْ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ؛ فِي رُجُوعِهِ مِنْ ثَقِيفٍ حِينَمَا آذَوْهُ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَمَعَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ يَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ:
«لَا، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ. فَقَدْ صَفَحَ وَصَبَرَ، وَرَجَى مِنَ اللَّهِ إِيمَانَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ.وَهَذَا أَقْصَى دَرَجَاتِ الصَّبْرِ وَالصَّفْحِ، وَأَعْظَمُ دَرَجَاتِ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}.بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُنْبَذْ بِالْعَرَاءِ عَلَى صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ، بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةً تُظِلُّهُ وَتَسْتُرُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [37/ 146].
.تفسير الآية رقم (50):
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [37/ 147- 148].
.تفسير الآية رقم (51):
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} فِيهِ عَوْدُ آخِرِ السُّورَةِ عَلَى أَوَّلِهَا. وَأَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سَمِعُوا الذِّكْرَ شَخَصَتْ أَبْصَارُهُمْ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرْمُونَهُ بِالْجُنُونِ. وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّ هَذَا الَّذِي سَمِعُوهُ لَيْسَ بِهَذَيَانِ الْمَجْنُونِ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وَفِيهِ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، إِنَّمَا هِيَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ.
.سُورَةُ الْحَاقَّةِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
.تفسير الآية رقم (4):
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}.
{الْحَاقَّةُ}: مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، وَجَاءَ بَعْدَهَا:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [69/ 4]. وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} الْآيَةَ [101/ 3- 4].سُمِّيَتْ بِالْحَاقَّةِ; لِأَنَّهُ يَحِقُّ فِيهَا وَعْدُ اللَّهِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِالْقَارِعَةِ؛ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِهَوْلِهَا:
{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [22/ 2].كَمَا سُمِّيَتِ:
{الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [56/ 1- 2].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} وَالطَّاغِيَةُ فَاعِلَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ مُطْلَقًا، كَقَوْلِهِ:
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [69/ 11].وَقَوْلِهِ:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [96/ 6].وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الطُّغْيَانِ هُنَا، فَقَالَ قَوْمٌ: طَاغِيَةٌ: عَاقِرُ النَّاقَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [91/ 11- 12]، فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيْ: بِسَبَبِ طَاغِيَتِهَا، وَقِيلَ: الطَّاغِيَةُ: الصَّيْحَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي أَهْلَكَتْهُمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [54/ 31]، فَتَكُونُ الْبَاءُ آلِيَّةً، كَقَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَقَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ.وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [51/ 44]. وَقِيلَ: لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ تَلَازُمَ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبُ الثَّانِي لَمَّا كَانُوا بَعِيدًا، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ}.فَالْعُتُوُّ هُوَ الطُّغْيَانُ فِي الْفِعْلِ، وَالصَّاعِقَةُ هِيَ الصَّيْحَةُ الشَّدِيدَةُ، وَقَدْ رَبَطَ بَيْنَهُمَا بِالْفَاءِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-، بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [41/ 16] الْمُتَقَدِّمِ فِي فُصِّلَتْ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ لِكَيْفِيَّةِ إِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [89/ 13].
.تفسير الآية رقم (9):
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} الْمُؤْتَفِكَاتُ: الْمُنْقَلِبَاتُ، وَهِيَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ.وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- تَفْصِيلُ ذَلِكَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هُودٍ:
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} الْآيَةَ [11/ 82].وَفِي النَّجْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [53/ 53].تَنْبِيهٌ.نَصَّ تَعَالَى هُنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ، وَالْمُؤْتَفِكَاتِ جَاءُوا بِالْخَاطِئَةِ، وَهِيَ:
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [69/ 10]، وَكَذَلِكَ عَادٌ وَثَمُودُ كَذَّبُوا بِالْقَارِعَةِ. فَالْجَمِيعُ اشْتَرَكَ فِي الْخَاطِئَةِ، وَهِيَ عِصْيَانُ الرَّسُولِ:
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [73/ 16]، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً.وَنَوَّعَ فِي أَخْذِهِمْ ذَلِكَ: فَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَ نُوحٍ، وَأَخَذَ ثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ، وَعَادًا بِرِيحٍ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِقَلْبِ قُرَاهُمْ، كَمَا أَخَذَ جَيْشَ أَبْرَهَةَ بِطَيْرٍ أَبَابِيلَ، فَهَلْ فِي ذَلِكَ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ كُلِّ أُمَّةٍ وَعُقُوبَتِهَا، أَمْ أَنَّهُ لِلتَّنْوِيعِ فِي الْعُقُوبَةِ; لِبَيَانِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَتَنْكِيلِهِ بِالْعُصَاةِ لِرُسُلِ اللَّهِ.الْوَاقِعُ أَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِيهِ آيَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَفِيهِ تَنْكِيلٌ بِمَنْ وَقَعَ بِهِمْ، وَلَكِنَّ تَخْصِيصَ كُلِّ أُمَّةٍ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهَا يُثِيرُ تَسَاؤُلًا، وَلَعَلَّ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً خَفِيفَةً هُوَ الْآتِي.أَمَّا فِرْعَوْنُ، فَقَدْ كَانَ يَقُولُ:
{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [43/ 51]، فَلَمَّا كَانَ يَتَطَاوَلُ بِهَا جَعَلَ اللَّهُ هَلَاكَهُ فِيهَا، أَيْ: فِي جِنْسِهَا.وَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَأَصْبَحُوا لَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، فَلَزِمَ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَلَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ إِلَّا الطُّوفَانُ.وَأَمَّا ثَمُودُ، فَأُخِذُوا بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ، لِأَنَّهُمْ نَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ، فَلَمَّا كَانَ نِدَاؤُهُمْ صَاحِبَهُمْ سَبَبًا فِي عَقْرِ النَّاقَةِ، كَانَ هَلَاكُهُمْ بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ.وَأَمَّا عَادٌ، فَلِطُغْيَانِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [89/ 6- 8]، وَسَوَاءٌ عِمَادُ بُيُوتِهِمْ وَقُصُورِهِمْ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ أَجْسَامِهِمْ، وَوَفْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَوَافُرِ الْقُوَّةِ عِنْدَهُمْ، فَأُخِذُوا بِالرِّيحِ، وَهُوَ أَرَقُّ وَأَلْطَفُ مَا يَكُونُ، مِمَّا لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْهُ أَيَّةَ مَضَرَّةٍ وَلَا شِدَّةٍ.وَكَذَلِكَ جَيْشُ أَبَرْهَةَ، لَمَّا جَاءَ مُدْلٍ بِعَدَدِهِ وَعُدَّتِهِ، وَجَاءَ مَعَهُ بِالْفِيلِ أَقْوَى الْحَيَوَانَاتِ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَضْعَفَ الْمَخْلُوقَاتِ:
{الطُّيُورَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [105/ 3- 4].أَمَّا قَوْمُ لُوطٍ، فَلِكَوْنِهِمْ قَلَبُوا الْأَوْضَاعَ بِإِتْيَانِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَكَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قُرَاهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَخْوِيفًا لِقُرَيْشٍ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي سُورَةِ الْكَهْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [18/ 47].
.تفسير الآية رقم (18):
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [18/ 49].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيَانُ قَضِيَّةِ أَخْذِ الْكُتُبِ وَحَقِيقَتِهَا، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [18/ 49] فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.وَكَذَلِكَ بَحَثَهَا فِي كِتَابِهِ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَبَيَانُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلُ فِي حَقِّ الْكِتَابِ وَالْكِتَابَةِ وَتَسْجِيلِ الْأَعْمَالِ وَإِيتَائِهَا بِنُصُوصٍ صَرِيحَةٍ وَاضِحَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [18/ 49].وَقَوْلِهِمْ صَرَاحَةً:
{يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [18/ 49].وَقَوْلِهِ:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [50/ 18].وَقَوْلِهِ:
{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [17/ 14]، فَهُوَ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ يُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْرَؤُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، مِمَّا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَجْعَلُ أَخْذَ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ كِنَايَةً عَنِ الْيُمْنِ وَالشُّؤْمِ. وَهَذَا فِي الْوَاقِعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شُؤْمِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ، وَبِدُونِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وَالْمُسَمَّى عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِاللَّعِبِ. نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّى ظَنَنْتُ أَنَّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} وَالظَّنُّ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ إِذَا وُجِدَتِ الْقَرَائِنُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [18/ 53]، أَيْ: عَلِمُوا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [18/ 53]، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا الظَّنُّ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْجَزْمِ.وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [49/ 12]، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَعْضَهُ لَيْسَ إِثْمًا، فَيَكُونُ حَقًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [2/ 46].
.تفسير الآية رقم (28):
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}.قِيلَ فِي مَا: إِنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ؛ بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، وَالْجَوَابُ: لَا شَيْءَ، وَقِيلَ: نَافِيَةٌ، أَيْ: لَمْ يُغْنِ عَنِّي مَالِيَهْ شَيْئًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [26/ 88].وَقَوْلُهُ:
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [111/ 2].وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- فِي سُورَةِ الْكَهْفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [18/ 36].وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا} الْآيَةَ [43/ 36].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{هَلَكَ عَنَّي سُلْطَانِيَهْ} أَيْ: لَا سُلْطَانَ وَلَا جَاهَ وَلَا سُلْطَةَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [18/ 48]: حُفَاةً عُرَاةً.وَقَوْلِهِ:
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [6/ 94].
.تفسير الآيات (33-34):
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} فِيهِ عَطْفُ عَدَمِ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، مِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُعَذَّبُ عَلَى الْفُرُوعِ.وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- مَبْحَثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فُصِّلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [41/ 6- 7]، وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنْهُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- قَوْلَهُ: كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُؤْمِنُ يُثَابُ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَلَى طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يَزْدَادُ بِالْمَعَاصِي. وَيُجَازَى الْكَافِرُ عَلَى كُفْرِهِ وَعَلَى عِصْيَانِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [16/ 88].فَعَذَابٌ عَلَى الْكُفْرِ وَعَذَابٌ عَلَى الْإِفْسَادِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [3/ 90]، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَبْحَثُ زِيَادَةِ الْعَذَابِ عِنْدَ آيَةِ النَّحْلِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} إِضَافَةُ الْقَوْلِ إِلَى الرَّسُولِ الْكَرِيمِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ، كَمَا جَاءَ بَعْدَهَا، قَوْلُهُ:
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [69/ 43] وَالرَّسُولُ يَحْتَمِلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ جِبْرِيلَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَقِّ جِبْرِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [81/ 19- 21].وَهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [69/ 41] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنِ اتُّهِمَ بِذَلِكَ هُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَاهُ ذَلِكَ عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِثْبَاتُ الصِّفَةِ الْكَرِيمَةِ لِسَنَدِ الْقُرْآنِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ، وَقَدْ أَشَارَ لِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ:
{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [81/ 21- 22].فَأَثْبَتَ السَّلَامَةَ وَالْعَدَالَةَ لِرُسُلِ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ اللَّهِ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى قُرَيْشٍ مَا اتَّهَمَتْ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ أَيْضًا الرَّدُّ عَلَى الرَّافِضَةِ دَعْوَاهُمُ التَّغْيِيرَ أَوِ النَّقْصَ فِي الْقُرْآنِ.
.تفسير الآية رقم (44):
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} الْآيَةَ [46/ 8]، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاضِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَقَدِ اسْتَبْعَدَ أَبُو حَيَّانَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي تَقَوَّلَ رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَقَالَ: إِنَّهَا قُرِئَتْ بِالْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ بَعْضٍ، وَقَالَ: وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ فَاعِلُ تَقَوَّلَ مُقَدَّرًا تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا مُتَقَوِّلٌ، وَقَدْ ذَكَرَ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ كُلٌّ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ وَالْكَشَّافِ، وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَلَا الطَّبَرِيُّ وَلَا النَّيْسَابُورِيُّ مِمَّنْ يُعْنَوْنَ بِالْقِرَاءَاتِ، مِمَّا يَجْعَلُ فِي صِحَّتِهَا نَظَرًا، فَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مُوَجَّهَةً وَلَكِنْ مَا اسْتَبْعَدَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَمَنَعَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ فِي الْوَاقِعِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاضِ فَلَيْسَ مَمْنُوعًا، وَقَدْ جَاءَ الِافْتِرَاضُ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [43/ 81]، وَقَوْلِهِ:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [21/ 22]، وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ فِي الْمَوْضُوعِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ:
{فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [46/ 8].
.تفسير الآية رقم (51):
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} فِي هَذَا نَفْيُ كُلِّ بَاطِلٍ: مِنْ شِعْرٍ أَوْ كِهَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلِكُلِّ نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ.وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَيَانُ إِضَافَةِ الْحَقِّ لِلْيَقِينِ، وَمَعْنَى التَّسْبِيحِ بِاسْمِ رَبِّكَ عِنْدَ آخِرِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ هُوَ مُنْتَهَى الْعِلْمِ، إِذِ الْيَقِينُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ:الْأُولَى: عِلْمُ الْيَقِينِ.وَالثَّانِيَةُ: عَيْنُ الْيَقِينِ.وَالثَّالِثَةُ:
{حَقُّ الْيَقِينِ} كَمَا فِي التَّكَاثُرِ:
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [102/ 5- 7] فَهَاتَانِ دَرَجَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ إِذَا دَخَلُوهَا كَانَ حَقَّ الْيَقِينِ، وَمِثْلُهُ فِي الدُّنْيَا: الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْكَعْبَةِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ رُؤْيَتُهَا عَيْنُ الْيَقِينِ، ثُمَّ بِالدُّخُولِ فِيهَا يَكُونُ حَقَّ الْيَقِينِ، وَكَمَا نُسَبِّحُ اللَّهَ وَهُوَ تَنْزِيهُهُ، فَكَذَلِكَ نُنَزِّهُ كَلَامَهُ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ.
.سُورَةُ الْمَعَارِجِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
.تفسير الآية رقم (1):
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} الْمَعْلُومُ أَنَّ مَادَّةَ سَأَلَ لَا تَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، كَتَعَدِّيهَا هُنَا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الْفِعْلَ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ: مَا اسْتَعْجَلَ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [29/ 53]، وَذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ سَأَلَ بِمَعْنَى دَعَا.وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ:
{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [8/ 32]، وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ.وَقُرِئَ سَالَ بِدُونِ هَمْزَةٍ مِنَ السَّيْلِ، ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالُوا: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: مُخَفَّفُ سَأَلَ اهـ.وَلَعَلَّ مِمَّا يُرَجِّحُ قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْفِعْلَ ضُمِّنَ مَعْنَى مَثَلٍ آخَرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} الْآيَةَ [42/ 18].وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [8/ 32]، وَأَحَالَ عَلَى سُورَةِ سَأَلَ وَقَالَ: وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.وَقَدْ بَيَّنَ هُنَاكَ: أَنَّ قَوْلَهُمْ يَدُلُّ عَلَى جَهَالَتِهِمْ؛ حَيْثُ لَمْ يَطْلُبُوا الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ.وَحَيْثُ إِنَّهُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَحَالَ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ؛ فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ إِنَّمَا هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ:
{سَأَلَ سَائِلٌ} بِمَعْنَى: اسْتَعْجَلَ أَوْ دَعَا؛ لِوُجُودِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ آيَةِ سَأَلَ وَآيَةِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ الْمَذْكُورَةِ. فَإِنَّهُمَا مُرْتَبِطَانِ بِسَبَبِ النُّزُولِ.كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{سَأَلَ سَائِلٌ} قَالَ: دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. قَالَ: هُوَ قَوْلُهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الْآيَةَ. وَالْقَائِلُ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلْدَةَ.وَالْإِيضَاحُ الْمُنَوَّهُ عَنْهُ يُمْكِنُ اسْتِنْتَاجُهُ مِنْ هَذَا الرَّبْطِ، وَمِنْ قَوْلِهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَهَالَتِهِمْ، وَبَيَانِ مَا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَذَابُ الْوَاقِعُ هَلْ وُقُوعُهُ فِي الدُّنْيَا أَمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: أَنَّ جَهَالَةَ قُرَيْشٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِطَلَبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ كَمَا قِيلَ:لِمَا نَافِعٍ يَسْعَى اللَّبِيبُ فَلَا تَكُنْ سَاعِيًا.وَأَمَّا النَّقْلُ؛ فَلِأَنَّ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ وَقَدْ جَاءُوا مُتَحَدِّينَ غَايَةَ التَّحَدِّي لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الْحَقَّ، قَالُوا: آمَنَّا، وَخَرُّوا سُجَّدًا وَلَمْ يُكَابِرُوا، كَمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ نَبَئِهِمْ فِي كِتَابِهِ، قَالَ تَعَالَى:
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وَلَمَّا اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ، وَقَالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، قَالُوا وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ هُنَا:
{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} وَلَمْ يُبَالُوا بِوَعِيدِهِ وَلَا بِتَهْدِيدِهِ. وَقَالُوا فِي اسْتِخْفَافٍ:
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [20/ 70- 72]، فَهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الْبَيِّنَاتِ خَرُّوا سُجَّدًا وَأَعْلَنُوا إِيمَانَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ.أَمَّا وُقُوعُ الْعَذَابِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ؛ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى وُقُوعِهِ، وَكَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَقَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالَ:
{هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [16/ 1].
.تفسير الآيات (2-3):
{لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)}:وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ لَابُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ. أَمَّا مَتَى يَكُونُ فَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ الطُّورِ نَظِيرُةُ هَذِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [52/ 7- 8]، ثُمَّ بَيَّنَ ظَرْفَ وُقُوعِهِ:
{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [52/ 9- 10]، وَفِي سِيَاقِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [70/ 8- 18]؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى زَمَنِ وُقُوعِهِ. وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} رَدًّا عَلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِالْعَذَابِ الْمُسْتَعْجِلِينَ بِهِ؛ مُجَازَاةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ، كَمَا دَعَوْا وَطَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ اسْتِخْفَافًا؛ فَهِيَ تَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا زَجْرًا وَتَخْوِيفًا، مُقَابَلَةَ دُعَاءٍ بِدُعَاءٍ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا دَعَوْتُمْ بِالْعَذَابِ فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَةِ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَوَلَّى، وَهَذَا الرَّدُّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ مِنْ تَغْيِيرِ السَّمَاءِ كَالْمُهْلِ، وَتَسْيِيرِ الْجِبَالِ كَالْعِهْنِ، وَتَقَطُّعِ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ مِنَ الْفَزَعِ وَالْهَوْلِ مِمَّا يَخْلَعُ الْقُلُوبَ، كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ قِصَّةَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ لِأَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [52/ 1- 8]، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي فَأَسْلَمْتُ؛ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَقُومَ مِنْ مَقَامِي حَتَّى يَقَعَ الْعَذَابُ.وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ إِلَى الْحَسَنِ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يَقْرَأُ:
{وَالطُّورِ} حَتَّى بَلَغَ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، فَبَكَى الْحَسَنُ وَبَكَى أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ مَالِكٌ يَضْطَرِبُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ.وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، إِذْ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ بِالطُّورِ; فَرَبَا لَهَا أُعِيدَ مِنْهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَكَانَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُفْزِعُ رَدًّا عَلَى ذَاكَ الطَّلَبِ الْمُسْتَخِفِّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَنَأْمُلُ أَنْ نَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا الْإِيضَاحَ الَّذِي أَرَادَهُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.